شهد المغرب يوم الجمعة مظاهرات تاريخية "تندد" لأول مرة بحق العفو الدستوري الذي يمارسه الملك منذ عقود وقننه الفصل 58 من دستور البلاد المُعَدَّلِ في فاتح يوليوز/تموز من سنة 2011. فملك المغرب ،أمير المؤمنين وحامي الملة والدين، حسب عُرْفِ المخزن، يمنحه الفصل الثامن والخمسون من الدستور ممارسة العفو بعبارة مرسلة وغير مقيدة: "يمارس الملك العفو". تعطي اللغة المكتوب بها الفصل للملك صلاحيات واسعة في الحفاظ على من يشاء في سجون المملكة المتناسلة في السنين الأخيرة وإسقاط العقوبات الزجرية عن البعض كما أنه من مطلق حُرِّ حقوقه العفو عمن يشاء وتبييض سيرته بجرة قلم ودون أدنى محاسبة من أحد. فهو يمارس هذا الحق منذ عقود رغم الجدل الذي كانت تثيره الجماعات اليسارية المعارضة حول دستوريته وملاءمته للممارسة الديمقراطية لدرجة أن أقطاباً مهمين من اليسار المغربي فضلوا البقاء في السجون لسنين طوال على استجداء العفو لأنهم آمنوا بأنه أداة سلطوية يجب سحبها من يد السلطان. بطبيعة الحال، الملك ملك، له مؤسسات وأدوات إعلامية وإمكانيات مادية وبشرية لم تكن أبداً متوفرة لليسار أو للمعارضة بشكل عام مما جعل مطالبهم تذهب أدراج الرياح في تلك الفترة. أضف إلى ذلك كله أن الدستور يحمي قراراته ويضعها فوق أي نقاش لذلك لم يكن هناك ولو ذرة حظ لهذه الجماعات اليسارية لِتوصِلَ خطابها إلى الشعب العميق حول مقدار الظلم الذي يشكله وضع آلية العفو بين يدي شخص واحد يتصرف فيها كيفما شاء. فقد فاجأ رد فعل الشارع المغربي الكثيرين بسبب جرأته وتوجيهه لوماً مباشراً للجهة المعنية بالعفو، ألا وهي المؤسسة الملكية التي أساءت استعمال حق من حقوقها الدستورية مما يشكل سابقة مهمة في تاريخ المغرب الحديث. فبعدما كان المغاربة يتظاهرون ضد المحيطين بالملك أو ضد الفساد، هذه أول مرة يتظاهرون فيها ضد فعل من أفعال الملك مباشرة. من المهم فهم هذه السابقة في إطارها الاقليمي والدولي وفي إطار المخاوف من تبعات العفو على المرضى جنسياً على الطفولة المغربية، خاصة أن حوادث اغتصاب الأطفال منتشرة بشكل ملفت في أنحاء مختلفة من الوطن في السنين الأخيرة.
عادي جداً أن يطلع على المغاربة أحد المذيعين الذين يحفظون خطاباتهم من كثرة تكرارها ليعلن أن عاهل البلاد أصدر أمره المُطاع بالعفو عن كذا وكذا عدد من السجناء وتخفيض العقوبة الحبسية أو الغرامة لكذا وكذا عدد من المحبوسين على ذمة جرائم شتى بمناسبة حلول عيد من الأعياد أو ذكرى من الذكريات الوطنية الكثيرة. وبمناسبة عيد العرش أو عيد الجلوس، كما يسمى في بعض بلدان الخليج، وتفعيلاً لسلطة العفو، قرر الملك هذه السنة الافراج عن 48 سجيناً إسبانياً قيل إن الملك خوان كارلوس قد قدم طلباً بخصوصهم أثناء زيارته الأخيرة إلى البلد في الفترة الممتدة بين 14 و 18 من شهر تموز من سنة 2013. زيارة اعتبرها المتتبعون تاريخية بكل المقاييس نظراً للعلاقات المتوترة دوماً بين الجاريْنِ القريبيْنِ جداً والمتباعديْنِ كثيراً عن بعضهما البعض. فالرحلة من طنجة إلى طريفة تستغرق 35 دقيقة فقط على متن العبارات السريعة إلا أن التباعد الثقافي والسياسي بين الشعبيْنِ المغربي والإسباني يقاس بمئات السنين الضوئية بسبب الخلافات والأحقاد التاريخية التي تعترض طريقهما كألغام ترفض أن يبطل مفعولها مرور السنين. لذلك من "الطبيعي" أن يستجيب القصر الملكي لطلب إسبانيا تسليم المحبوسين الإسبان بالمغرب كبادرة حسن نية لتحسين العلاقات بين البلدين. إلا أن الذي لم يدركه القيمون على هذه العملية، أو ربما لم يقيموا له وزناً ولا حساباً، هو أن إفراجهم عن مغتصب الأطفال المدعو "دانيال كلفان" القاطن بالمغرب، وبالضبط بمدينة القنيطرة القريبة من الرباط، منذ فترة حرب العراق في سنة 2003/2004، أدى إلى تنديد واسع وأشعل نار الغضب في الشارع المغربي، نظراً لبشاعة جرائمه التي استباحت أطفالاً تتراوح أعمارهم بين الرابعة والحادية عشرة.
فشخصية "دانيال كالفان" يلفها الكثير من الغموض ويزيدها عنصر زمن إقامته بالمغرب وما تسرب عن كونه عراقي يحمل اسماً إسبانياً غرابة تتوفر فيها كل بهارات رواية من روايات الرعب. فحسب موقع "لكم" الالكتروني فدنيال كالفان ليس في الحقيقة إلا هوية مزورة لعميل مخابرات أو ضابط عراقي كبير قدم خدمات لمصالح الاستعلامات الإسبانية خلال فترة غزو العراق فتم توطينه بالمغرب بهوية جديدة ومُنِحَ الجنسية الاسبانية جزاء له على الخدمات التي قدمها للغزو. فحسب نفس الموقع الذي قام بتغطية جيدة وحاسمة للقضية منذ تفجرها يوم الخميس الأول من شهر تموز، فإن "سلوك مغتصب الأطفال كما يبدو من خلال محاضر التحقيق هو سلوك رجل يقوم بارتكاب جرائمه دون خوف من التبعات كما لو أنه يتمتع بحصانة فريدة" أما محاميه المدعو بنجدو فإنه أخبر "لكم" بأن موكله أخبره غير ما مرة بأنه كان ضابطاً في المخابرات العراقية أيام صدام حسين. هكذا إذاً يظهر أن العفو على رجل أدانته محكمة القنيطرة في سنة 2011 على خلفية ثبوت اغتصابه لأحد عشر طفلاً مغربياً تتراوح أعمارهم بين أربع وإحدى عشرة سنة وتصويرهم في أوضاع مخلة وتسجيل أفعاله المشينة على أقراص مدمجة وحوامل إلكترونية يتجاوز حدود الإفراج عن مجرم عادي ارتكب أعمالاً يجرمها القانون. فللرجل مكانة رفيعة وحظوة خاصة مكنتاه من الإفلات من العقاب رغم بشاعة جرائمه. فحتى بيان وزارة العدل المغربية عن قرار العفو عنه كان واضحاً من جهة المسؤول عن هذا الخطأ الجسيم أو بالأحرى الاغتصاب الثاني للأطفال المغاربة الذي تم “بقرار ملكي أملته من غير شك مصالح وطنية، وإذا كان استفاد منه شخص ضليع في ارتكاب جرائم معينة، فقد تم ترحيله ومنعه من الدخول إلى البلاد نهائياً." هكذا صار العفو عن مجرم خطير رديفاً للحفاظ على المصالح الاستراتيجية للوطن و تكون وزارة العدل والحريات مساهمة في تبرير دعوة المغتصبين للطفولة من كل أصقاع الأرض لاستباحة الطفولة المغربية مادام أنه بإمكانهم الاعتماد على آلية العفو للإفلات من العقاب مهما غضب المغاربة ومهما وجدهم القضاء مذنبين.
الجديد هذه المرة هو أن العفو الملكي لم يمر مرور الكرام إذ إنه أثار زوبعة كبرى في مواقع التواصل الاجتماعية وفي ظرف ساعات قليلة اكتظت صفحات الفايسبوك والتويتر بآلاف المغاربة المستنكرين لهذا الاغتصاب الألف لحقوق الطفولة المغربية ولمستقبل الوطن. ارتفع منسوب الغضب الشعبي ضد من أصدر العفو وضد كل الزعامات السياسية والوجوه الفنية التي لم تستطع فك عقد السنتها والتعبير عن استنكارها لهكذا خطوة. فلأول مرة نرىرئيسة جمعية لها باع طويل في الظهور على التليفزيون والبكاء على كرامة الأطفال المغاربة تلجأ إلى لغة الخشب للتملص من التعبير عن موقف قوي من الحدث. سلوك هذه المسؤولة الجمعوية يفضح مناورات الكثير ممن يسمون أنفسهم أعضاء في المجتمع المدني ويتبنون قضايا حساسة ولكنهم في الحقيقة لا يستطيعون مجابهة السلطة ويبلعون ألسنتهم عند أول اختبار نظراً للامتيازات التي توفرها مناصبهم من أسفار إلى الخارج وحضور إلى مؤتمرات دولية على حساب أموال دافعي الضرائب. أما الزعامات السياسية، إن صح القول بأن هناك زعامات سياسية بمفهومها الحقيقي في المغرب حالياً، فإنها لجأت إلى لعبة الصمت حتى تمر العاصفة لكي لا تتخذ مواقف شجاعة تتطلب منها تضحيات على مستوى المناصب السياسية التي يرنون إلى تبوئها في المستقبل. وحدها الأحزاب اليسارية امتكلت الجرأة لإدانة قرار العفو الذي وصفه حزب النهج الديمقراطي بأنه "مرفوض أخلاقياً وشعبياً " وبأنه "يكرس الإفلات من العقاب" ويدعو الحزب "كافة مناضلي النهج الديمقراطي والمتعاطفين معه إلى المشاركة الوحدوية والفعالة في كل الأشكال الاحتجاجية بمختلف المناطق للتنديد بهذا القرار المهين لشعبنا وطفولته."
هكذا إذاً، وجد الفاعلون الإعلاميون ونشطاء حركة 20 فبراير والمستقلون أنفسهم ينظمون مظاهرة الغضب ضد هذا القرار الملكي في كل مدن المغرب الجمعة الثاني من شهر أغسطس. فغياب الأحزاب السياسية والشبيبة الحزبية والمنتفعين من النظام المخزني لم يمنع نشطاء مغاربة من كل الاتجاهات من تعبئة الشعب المغربي للخروج في مسيرات احتجاجية ضد هذا العفو الذي صار رديفا للتسلط. فأن تخرج أسر مغربية مع أبنائها رفقة أعضاء من حركة 20 فبراير وغيرها من الحركات المناضلة ضد الاستبداد في المغرب دليل على حدوث تغير جوهري في طريقة نظر المغاربة إلى السلطة. فبعدما كان المغربي يخشى من ذكر اسم الملك ويرتعد لمجرد مرور شرطي أو حتى مختار في أصغر حي، ها هو يتظاهر ضد قرار اتخذه رئيس الدولة شخصياً بموجب الفصل الثامن والخمسين من الدستور.هذا لم يكن ليحدث لولا التحولات العميقة التي هزت كيان العالم العربي من المحيط إلى الخليج وخلخلت بنية الاستبداد. بطبيعة الحال، المغرب ليس استثناء في حركية التغيير التي اجتاحت العالم العربي منذ إحراق محمد البوعزيزي لنفسه في 17 كانون الأول 2011. فمنسوب الوعي السياسي ارتفع بطريقة مذهلة واللجوء إلى الاحتجاج ضد كل أشكال القهر والظلم صار مكسباً يعض عليه الناس بالنواجذ، أما التعرض للرموز السياسية التي كانت مقدسة في السابق فإنه استحال حقاً من الحقوق الأساسية التي لن تسحب من المواطنين أبداً مهما حاول المخزن الرجوع إلى المرحلة السابقة. ففي ظرف ساعات قليلة فقط انضم أزيد من ستة آلاف مغربي إلى صفحة على الفايسبوك داعين إلى التظاهر ضد قرار الملك. هذه السابقة لن تكون الأخيرة لأن الحواجز النفسية التي لجمت الشعوب انكسرت وصارت من الماضي والشعب المغربي ليس معزولاً عما يقع في محيطه من تغيرات بدلت وجه المنطقة واكيد أنها ستبدل مستقبلها أيضاً.
ليس مفاجئاً أن الدولة وآلتها القمعية جابهت المتظاهرين المسالمين بترسانة القوة ولغة القمع في محاولة لتفريقهم وبث الرعب في نفوسهم. فالصور القادمة من المغرب مساء الجمعة كانت صادمة ودامية ومقززة. إلا أنه بمقدار دمويتها بينت أن هناك قناعة راسخة لدى المشاركين في هذه الاحتجاجات بأن الكرامة والدفاع عن حقوق الانسان له ثمن وأنهم كانوا مستعدين لأدائه في سبيل الوصول إلى الديمقراطية الحقيقية التي مات على نهجها الآلاف من المغاربة قبل وبعد الاستقلال.
[ جانب من الاحتجاجات التي شهدتها مدينة الرباط يوم الجمعة. مصدر الصور "بلادي"]
كما يتبين من هذه الصور المنشورة على صفحات الفايسبوك والتي أخذها موقع بلادي فحكومة بنكيران لم تشذ عن قاعدة حكومات القمع التي عرفها المغرب والتي كثيراً ما أسالت دماء الشعب في الشوارع:
من خلال التعبئة السريعة والفعالة خلال اليومين الماضيين بين المغاربة أن لا المناورات السياسية ولا بهلونيات رئيس الحكومة ولا مساحيق الديمقراطية المتحكم فيها بتوازنات مؤسساتية معقدة لم تستطع أن تثنيهم عن التوجه مباشرة إلى المعني بالأمر والاحتجاج ضد قرار سلطوي أضاع حقوق كثير من الأطفال المغاربة ويفتح الباب مشرعاً أمام المغتصبين للفتك بأجسادهم الرخوة واستباحة براءتهم. فأن يخرج الآلاف في رمضان في المدن الرئيسية ليستنكروا قرارا اتخذه رئيس الدولة لدليل على أن الساحة الشبابية المغربية لم تقل بعد كلمتها وأن الفكر الثوري لم ينحسر رغم كل ما بُذِلَ من مجهودات لوأده في المهد.